منذ سنوات خلت ـ ما زلت أذكرها ـ كان أهل المحافظات الأخرى مثل أهل الريف ، يفدون إلى العاصمة. ومفهوم المحافظات ـ كان وما زال ـ أقرب إلى مفهوم المناطق الريفية منها إلى المناطق المدنية في وطننا...
كانوا أصحاء، وكانوا مضرب المثل بسلامة أجسادهم، وقوة عضلاتهم، ونقاء وجوههم، وصفاء لونهم... وكانوا يفدون يحملون سلالهم وصناديقهم، يخبئون فيها الصحة والسعادة، يبيعونها ويقفلون راجعين إلى أريافهم فرحين ببعض ما تبضعوه من المدينة، وببعض نقود بقيت تكفيهم مصاريف الفصول...
يأتون إلى العاصمة بكل ما تنتجه أراضيهم وسواعدهم من خضرة وافرة، كوفرة صحتهم، ومن فاكهة مختلفة ألوانها رمان ودراق وكرز وعنب.
واليوم... أين منهم الصحة؟!
لقد غادرتهم إلى غير رجعة!! أو غادروها مرغمين لا عاشقين ولا مشتهين... غادروا الشباب والماء والفتوة
هرموا وشاخوا .. ضعفوا وناسوا ..خارت قواهم ، وتغيرت ألوانهم
لا فرق بين ساكن جبل وبين ساكن سهل وبين ساكن بقرب البحر أو النهر
فحيث كانت توجد الحياة بكل مقوماتها في محافظاتهم، صار يوجد الموت بكل عناصره،
تلوثت صحتهم كتلوث بيئاتهم .. غزتهم الأمراض من كل حدب وصوب وليس لسبب إلا التلوث البيئي (الصناعي والمائي والغازي والدخاني)
غزتهم الأدران... تسرطنوا .. وهم لم يعوا بعد معنى سرطان فما زالوا يخافون ذكره يكنون عنه (المرض الذي لا يسمى) غابت الصحة وغربت الألوان فجأة صاروا يفدون بلا سلالهم أذلاء مكسورين، تغيرت دلالات الألوان، بل تغيرت الألوان، ذاتها! فالسماء سوداء والجبل كالح، والشجر أصفر، والماء صرف صحي، وآبار مليئة بالأوبة، وأنهار ما هي إلا مصبات معامل ومشاف...
بدأ اللون الأخضر يختفي في الكثير من المحافظات، وحل الغبار والدخان، وبدأ الماء يشح وزحف الجفاف إلى الحياة، لا ماء الفرات في وجوههم، ولا اخضر السهل والغاب في عيونهم، ولا أزرق البحر في عروقهم...
لم يعودوا كما عهدتهم أصحاء، ممتلئين كعرنوس الذرة، أو كرمّان جبل العرب، أو كبندورة حوران...
لم نعد نراهم في الأسواق، بل تكاثفوا، وتكاثروا على أبواب المشافي الكبرى
تلقاهم في غرف الإسعاف في المشافي الكبرى التي ضاقت عنهم أسرتها، واتسعت لهم ممراتها وأرصفتها، وبلاط أراضيها، وفي أحسن الأحوال تجدهم في غرف العناية المشددة إن وجدوا المكان؛ فقد عزت غرف العناية المشددة العامة والخاصة، لمن لا عزّ له ولا مال لديه
كانوا يحملون إلينا صناديق الخير والصحة؛ واليوم يحملون منا صناديق الدواء، وربما عادوا إلى أريافهم بصناديق تحمل على آلة مستطيلة...
لأنهم طيبون، ومساكين، وحالمون بسماء زرقاء، وماء صاف وغذاء سليم، يأكلون منه ويحملونه كأحلامهم في سلالهم للآخرين...
السماء والهواء والنبات والماء هي نصف الوطن
ويبقى النصف الثاني... الإنسان... إنسان هذا الوطن
الذي يعمره بالعقل السليم الذي لا يوجد إلا في جسم سليم...
موطني... موطني
الجلال والجمال والسناء والبهاء
في رباك.. في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء
في هواك
هل أراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً
هل أراك تبلغ السما
موطني