دخلنا منطقة البويقلة، 042 كلم جنوبي عاصمة الولاية الجلفة، قبل
أن يسود الظلام، ولم يمر وقت طويل حتى انتشر خبر تواجدنا هناك، لأن القرية
صغيرة وألِف سكانها وجوه بعضهم البعض، فهم يلتقون في اليوم الواحد أكثـر
من مئة مرة، بسبب الفراغ القاتل.. بمجرد أن عرف السكان بأن ''الخبر'' نزلت إليهم حتى تجمّعوا وهرعوا
إلينا، وأشعرونا بأننا تأخرنا طويلا في المجيء إليهم، ومنهم من اغرورقت
عيناه بالدموع، وكأنه يريد أن يقول ''أنقذونا من حياة البؤس والإهانة''.
العقارب تفتك بالسكان ونساء حوامل يفارقن الحياة لأسباب تافهة
أكد
عدد من سكان منطقة البويقلة أن غالبية الأسر فقدت أحد أفرادها بسبب لسعات
العقارب، بعد أن تفشل عملية إنقاذهم، إما بسبب عدم توفر سيارة إسعاف أو
لغياب الأطباء عن قاعة العلاج. وقالوا إنه ''كلما حل فصل الصيف يتملكنا
الخوف، لأننا فشلنا، ونفشل، في مقاومة العقارب بسبب طبيعة الأرض الحجرية،
التي تعتبر المكان المفضل لها، كون كل الشوارع غير مهيأة.. لا أرصفة ولا
تزفيت، زيادة على غياب الكهرباء في أغلب المساكن، وضعفها في مساكن أخرى''.
ورد علينا مواطن أصر أن يدخلنا بيته لنرى مستوى إضاءة المصباح، الذي كان
خافتا جدا بسبب طول كابل المد، الذي تجاوز الـ400 متر، حيث قال إنه فقد
ابنه، مؤخرا، بسبب لسعة عقرب: ''ماذا نفعل؟ فنحن محرومون من الكهرباء منذ
سنوات، وهذا ما يجعلنا عاجزين عن أخذ الحيطة والحذر من الحشرات القاتلة،
التي حولت حياتنا إلى جحيم''. وأكد عدد ممن التقتهم ''الخبر'' أن أكثـر من
14 حالة وفاة سجلت بسبب لسعات العقارب، يضاف إلى هذا انعدام قنوات الصرف
الصحي، فالسكان يعتمدون على الطريقة البدائية، بحفر ''حفرة كبيرة'' داخل
المسكن وتكون مستقرا لفضلاتهم، وهذا ما يعرضهم إلى أمراض كثيرة، كالتيفوئيد
والكوليرا وأمراض أخرى مستعصية. وأضاف محدثنا: ''فقدنا كثيرا من نسائنا
الحوامل بسبب بعد المسافة عن أقرب مستشفى، الكائن ببلدية مسعد، مقر الدائرة
130 كلم، أو مستشفى الفرارة بولاية غرداية 90 كلم، بالإضافة إلى صمت
المسؤولين عن الصحة بالولاية بعدم تعيين قابلة بقاعة العلاج، القاعة التي
تبقى، في كثير من الأحيان، دون ممرض وطبيب''. وأكدوا أن قاعة العلاج تفتقر
لأبسط التجهيزات، وتكاد تكون هيكلا من دون روح.
سكان يشربون مع البهائم ومئات الأسر دون هويةمن
جهة أخرى، طلب منا عدد من السكان أن نزور الحوض المائي الذي يتزود منه
السكان، وخاصة سكان الأرياف والمناطق النائية، لنكتشف كارثة إنسانية أخرى،
حيث إن أكثـر من 500 عائلة تتزود من الحوض، رغم وجود لافتة كبيرة تحذر من
شرب الماء، كونه غير صالح تماما وموجه فقط للبهائم. لنسأل أحد السكان، الذي
كان يقوم بملء صهريج شاحنته: ''الماء غير صالح للشرب، وقد يتسبب في
أمراض؟''، ليرد متحسرا ''ماذا نفعل؟ إذا لم نشرب فإننا سنموت وأطفالنا،
وليس أمامنا إلا هذا المصدر''. وأضاف محدثنا: ''لقد ناشدنا السلطات المحلية
لسنوات طويلة من أجل حل هذا المشكل، إلا أننا يئسنا في إقناع المسؤولين
بأننا أمام موت حقيقي يتربص بنا في كل لحظة، بسبب الأمراض المتنقلة عن طريق
المياه''. بالمقابل، كشف لنا محدثونا أن هناك ما يفوق 3 آلاف نسمة لا تملك
أي وثيقة هوية وغير مسجلين بمصالح البلدية، ولم ينعم أبناؤهم بالدراسة
كباقي أقرانهم، ومازالت هذه القضية مطروحة على مستوى أجهزة العدالة للبت
فيها، وإيجاد حلول تمكّن المئات من الأطفال من التمدرس.
عشرات الملايير لم تخلّف إلا الفقر والحفرة والإهانةكشفت
الأرقام الرسمية، التي تحصلت عليها ''الخبر''، أن ميزانية بلدية قطارة تصل
إلى 16 مليار سنتيم في السنة، ما بين ميزانية أولية وإضافية، أي أن
البلدية قد استفادت من مبلغ إجمالي قدره 240 مليار سنتيم، وهذه المبالغ
توزع على تجمعين سكانيين، قطارة مقر البلدية، والبويقلة ذات الـ4000 نسمة
والتي يعادل تعداد سكانها سكان مقر البلدية، إلا أنها، ومنذ إنشائها سنة
1996، لم يتغير فيها أي شيء، رغم أن طموح السكان لم يتعد توفير الماء
النقي والكهرباء والتهيئة الحضرية كباقي بلديات الولاية، فكل الشوارع التي
سرنا بها والأحياء تفتقر لكل مشاريع التهيئة، ورغم ذلك يصر السكان على
البقاء فيها، متحدين كل الصعاب.
وتساءل الكثير من السكان عن الصمت الذي
تبديه السلطات، وعلى جميع مستوياتها، إزاء ما يحدث لهم من تهميش وحفرة
وإهمال، مؤكدين أن شعار العزة والكرامة لا وجود له هنا. مضيفين أن شباب
المنطقة، الذين يمثلون نسبة 70 بالمائة من السكان، محرومون من كل شيء،
ومطالبهم أقل بكثير مما يطلبه أقرانهم في بلديات أخرى، كالملاعب المعشوشبة
وقاعات متعددة الرياضات والشغل، بل كل ما يحلمون به حياة كريمة تشعرهم
بأنهم موجودون، وبأنهم ينتمون للجزائر، التي وعدهم، ذات مرة، رئيس
الجمهورية بأن يعيشوا فيها ''مرفوعي الرأس''.
الشباب قنبلة موقوتة مرشحة للانفجاروفي
آخر زيارتنا لقرية البويقلة، استوقفنا عدد من الشباب الذين طالبونا بإيصال
صوتهم للمسؤولين، وكافة السلطات التي يمكنها أن تأخذ القرار بالنزول إليهم
ومناقشة مشاكلهم. وأكد أحد الشباب، في رده على سؤالنا عن كيف يمضون يومهم
في هذه القرية: ''إننا كشباب مؤمنون بأن لا وطن لنا غير الجزائر، وأنه
مازال لدينا أمل في أن يلتفت إلينا المسؤولون''، مضيفا ''نحن نريد أن نشعر
بوجودنا.. نريد أن نتحصل على مناصب عمل، ونستفيد على غرار البلديات والقرى
الأخرى التي استفادت من بعض الهياكل والمؤسسات والمشاريع ونشعر بأهميتنا
كبشر''، ليقاطعه شاب آخر، وبلهجة شديدة: ''ألسنا جزائريين، ولنا الحق في
العمل، وفي السكن، وفي الحياة الكريمة؟ نريد من المسؤولين أن يتحركوا قبل
فوات الأوان، لأننا يئسنا من الانتظار، ومن التهميش، ومن الحفرة التي نخشى
أن تدفعنا إلى ما لا يحمد عقباه''. وقال شاب آخر: ''إننا نرفض أن نعيش
سنوات أخرى من الحفرة والتهميش وتكميم الأفواه، التي فرضها علينا مسؤولون
سابقون نهبوا كل ما كان يخصص لنا من برامج ومشاريع''.. لنخرج من قرية
البويقلة تحت جناح الظلام ونترك خلفنا مأساة حقيقية.
عدد القراءات : 9173 | عدد قراءات اليوم : 8390